مقتل أربعة وزراء دفعة واحدة في حكومة يعتبرها معارضوها "مرتدة" كان يُفترض أن يشكّل مصدراً لإطلاق ادعاءات بتحقيق "نصر" في معركة جديدة.
لكن ما حصل في فندق "شامو" في مقديشو في 3 ديسمبر/كانون الأول لم يكن مصدر افتخار، حتى لأشد المعارضين الإسلاميين الصوماليين الساعين إلى إسقاط حكومة الرئيس الإنتقالي شيخ شريف شيخ أحمد.
فقد سارع هؤلاء المعارضون، وعلى رأسهم "حركة الشباب المجاهدين" و"حزب الإسلام"، إلى نفي اتهامات الحكومة بضلوعهم في التفجير "الإنتحاري" الذي أوقع ما لا يقل عن 22 قتيلاً معظمهم من الطلاب الذين كانوا يحتفلون بتخرّجهم أطباء.
قلة في الصومال أخذوا نفي المعارضين الإسلاميين على محمل الجد. فقد كان واضحاً أن الجريمة تحمل "بصمات" المناوئين المتشددين للرئيس أحمد والذين نفّذوا عمليات "إنتحارية" عديدة مشابهة إستهدفت وزراء ومسؤولين في حكومته. لكن الفارق الآن أن معظم قتلى تفجير الفندق كانوا شباناً وشابات مسلمين رفضوا الاستسلام لواقع الحرب الأهلية اليومية التي تدمر عاصمتهم، فتابعوا تحصيلهم العلمي حتى تخرّجوا أطباء.
فجاءهم "انتحاري" يعتقد أنه يقوم بعمل "استشهادي" وحرم الصومال من ثلة من خيرة شبانه وشاباته.
حادث مقديشو ليس سوى نُسخة تتكرر في شكل شبه يومي على يد جماعات تنسب نفسها إلى "فكر القاعدة" وتقول إنها "تجاهد" من تعتبرهم "كفاراً" أو "مرتدين" في العالم الإسلامي. لكن مشكلة كثير من هذه الجماعات أنها في سعيها إلى تحقيق هدفها هذا تقوم بممارسات تؤدي إلى نتيجة معاكسة لتلك التي تبتغيها، فتنفّر منها الرأي العام بدل أن تكسبه إلى جانبها.
كان هذا بالتحديد ما حصل في مقديشو بعد "مذبحة الأطباء"، إذ خرج مئات من المواطنين في تظاهرة في العاصمة الصومالية نددوا فيها بحركة "الشباب" واتهموها بالمسؤولية عن إرسال "الإنتحاري"، على رغم نفيها لذلك.
لم تكد تمر أيام على حادثة مقديشو حتى شهدت بغداد سلسلة تفجيرات متناسقة أودت بحياة ما لا يقل عن 120 عراقياً. لكن قلة، بما في ذلك معارضو الحكومة، يمكنهم أن يجادلوا بأن هذا النوع من التفجيرات التي تقتل في الغالب مواطنين أبرياء ويتبناها فرع "القاعدة" العراقي (أو ما يُعرف بـ"دولة العراق الإسلامية") يمكنه أن يجلب تأييداً شعبياً إلى القائمين بها.
ولعل أبا مصعب الزرقاوي، الزعيم السابق للقاعدة في بلاد الرافدين والذي قتله الأميركيون عام 2006، يجسّد هذه "العشوائية" في كثير من العمليات التي يقوم بها من يعتبرون أنفسهم "جهاديين"، فيقتلون عشرات الأبرياء في مقابل كل جندي أجنبي أو عراقي يريدون استهدافه.
غالبية ضحايا القاعدة مسلمون وفي هذا الإطار، أظهرت دراسة حديثة (صدرت في ديسمبر/كانون الأول) لمركز مكافحة الإرهاب في كلية "وست بوينت" العسكرية الأميركية أن الغالبية العظمى من ضحايا العمليات المنسوبة إلى "القاعدة" هم من المسلمين وليس الغربيين.
فقد جاء في الدراسة التي اعتمدت على مصادر إعلامية عربية لتفادي شُبهة "انحياز" وسائل الإعلام الغربية ضد المسلمين، أن الغربيين لم يشكّلوا سوى 15 في المئة فقط من إجمالي عدد القتلى الـ 3010 الذي سقطوا في عمليات القاعدة بين العامين 2004 و2008. وتتراجع هذه النسبة إلى 2 في المئة فقط (12 قتيلاً من أصل 661) بين العامين 2006 و2008، في حين شكّل المسلمون نسبة الـ 98 الباقية من الضحايا.
وهذا يوضح بشكل جلي أن التنظيم الذي يقوده أسامة بن لادن يفشل في تحقيق الهدف الذي يقول إنه يسعى إليه وهو ضرب الغربيين، بما أن غالبية ضحاياه من المسلمين.
والظاهر أن قادة القاعدة كانوا واعين لخطورة هذا الأمر عليهم، وما يمكن أن يجرّه من خسارة لأي تأييد شعبي يمكن أن يحظى به التنظيم في البلدان المسلمة. وكان الرجل الثاني في القاعدة الدكتور أيمن الظواهري أوّل من تنبّه، على ما يبدو، لهذه المسألة عندما راسل الزرقاوي في العراق في شهر يوليو/تموز 2005 منبّهاً إياه إلى خطورة عمليات القتل التي يقوم بها خصوصاً الذبح أمام شاشات الكاميرا.
كما وتحدّث الظواهري في رسالته عن ضرورة عدم تنفير "جماعات المقاومة" الأخرى، وعن قضية الحرب التي يشنها الزرقاوي بلا هوداة ضد الشيعة العراقيين. والظاهر أن العمليات "الإنتحارية" التي نفّذها الزرقاوي في فنادق عمّان والتي راح ضحيتها عدد كبير من الضحايا المسلمين، في أواخر العام 2005، كانت بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير.
فأرسلت له "قيادة القاعدة في وزيرستان" (باكستان) رسالة تحذير، ولمّحت إلى إمكان تعيين بديل له على رأس "القاعدة في بلاد الرافدين".
لكن مقتل الزرقاوي لم يوقف سيل الانتقادات التي توجّه إلى "القاعدة" بأنها تسفك دماء المسلمين في عملياتها التي تستهدف من تعتبرهم "مرتدين"، سواء في العراق أو خارجه.
واضطر ذلك على ما يبدو الدكتور أيمن الظواهري الى نفي تقصّد "القاعدة" قتل أي مسلم، إذ قال في حواره الشهير عبر شبكة الإنترنت عندما رد على "أسئلة القرّاء" في العام 2007، "إننا لم نقتل الأبرياء، لا في بغداد، ولا في المغرب، ولا في الجزائر، ولا في أي مكان آخر. وإذا كان هناك أي بريء قُتل في عمليات المجاهدين، فإنه يكون نتيجة خطأ غير مقصود، أو للضرورة كما في حالات التترس."
ويبدو أن مبدأ "
التترس " الذي أفتى به علماء مسلمون في القرون الوسطى ما عاد يقنع اليوم كثيرين في العالم الإسلامي، بما في ذلك "الجهاديون" أنفسهم.
وعلى رغم أن هؤلاء "الجهاديين" لا ينفون صحة مبدأ "التترس" كمفهوم إسلامي يسمح بقتل مسلمين للوصول إلى الكفّار، إلا أن ما يرفضونه هو طريقة تطبيق هذا المبدأ في العمليات التي شهدها العديد من الدول الإسلامية في السنوات القليلة الماضية.
ولا شك أن هؤلاء يعرفون أن مسلمين شكّلوا الغالبية العظمى من التفجيرات التي حصلت في الدار البيضاء في المغرب في العام 2003، وتفجيرات "مجمعات الغربيين" في السعودية في العامين 2003 و2004، وتفجيرات اسطنبول في 2003، و
تفجيرات الجزائر في 2007 ، إضافة إلى عمليات أخرى متفرقة في كثير من الدول الإسلامية.
وقد
أفرد قادة "الجماعة الإسلامية المقاتلة" المسجونون في ليبيا في "المراجعات" الأخيرة التي صدرت عنهم في الصيف الماضي تحت عنوان "دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس"، أجزاء طويلة تصدوا فيها لمفاهيم الغلو في الدين وإساءة استخدام مفهوم "الجهاد" ليصبح كناية عن عمليات قتل بلا ضوابط فقط.
وقبل "الدراسات التصحيحية" لـ "المقاتلة"، صدرت مراجعات أخرى عن قادة جهاديين معروفين مثل "الدكتور فضل" (سيد إمام الشريف) الأمير السابق لـ "جماعة الجهاد" المصرية قبل أن يتسلّم قيادتها الدكتور الظواهري في العام 1993. وركّز الدكتور فضل في مراجعاته التي حملت عنوان "وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم"، على ما اعتبره إساءة تفسير لمفهوم الجهاد لتبرير عمليات قتل لا تجوز شرعاً، وسمّى "القاعدة" بوصفها من يقوم بمثل هذا العمل، بعكس قادة "الجماعة المقاتلة" الذين عالجوا أفكاراً من دون تسمية من يقوم بها.
وليس واضحاً بعد إلى أي مدى يمكن أن تصل إليه انتقادات "الجهاديين" لممارسات "القاعدة". لكن ما يظهر حتى الآن يدل على أن هناك ما يشبه "كرة الثلج" التي تكبر يوماً بعد يوم، ولم تعد تحصر نقدها لـ "القاعدة" في عمليات هذا التنظيم في الدول الإسلامية بل في الدول الغربية أيضاً.
فقد وجّه أحد أبرز القادة المحسوبين على تيار "السلفية الجهادية" في المغرب الشيخ محمد الفيزازي، في الصيف الماضي، رسالة من سجنه في المغرب إلى ابنته في ألمانيا أعلن فيها معارضته أي هجمات إرهابية "باسم الجهاد" ضد أوروبا عموماً وألمانيا تحديداً، قائلاً إن من يقوم بها "خائن" للدين الإسلامي.
وموقف الشيخ المغربي البارز الذي يمضي عقوبة بالسجن 30 سنة في بلاده في قضية تفجيرات الدار البيضاء العام 2003 (والتي ينفي علاقته بها) بالغ الأهمية كونه يُعتبر من "الشيوخ" الذين يحظون باحترام في أوساط "الجهاديين"، وكون موقفه يتعارض في شكل واضح مع تهديدات "القاعدة" بالقيام بتفجيرات جديدة في ألمانيا تحديداً، بعد تفجيرات مدريد (مارس/آذار 2004) ولندن (يوليو/تموز 2005) والتي راح ضحيتها مئات المدنيين.
* كميل الطويل صحافي لبناني متخصص في الجماعات الإسلامية، وله كتابان بعنوان "القاعدة وأخواتها قصة الجهاديين العرب"، و"الحركة الإسلامية المسلّحة في الجزائر من الإنقاذ إلى الجماعة". وقد كتب هذا التحليل خصيصا لموقع "الشرفة".