لم يكن أسامة بن لادن مختبئا في كهف في أفغانستان عندما قتلته وحدة من قوات النخبة الأميركية. كان في الحقيقة يعيش في مبنى فاخر يُقدّر ثمنه بنحو مليون دولار في منطقة ابت آباد القريبة من العاصمة الباكستانية، إسلام آباد، بالقرب من مقرات عسكرية للقوات المسلحة الباكستانية.
ربما لم يكن يعيش حياة فارهة، لكنه ظن على الأرجح أن مثل هذا المكان سيبعد عنه الشبهات ويترك أجهزة الأمن - التي تلاحقه منذ سنوات طويلة - تواصل تركيز بحثها عنه في مناطق القبائل الباكستانية و كهوف أفغانستان، وهما الموقعان اللذان كان يروج على نطاق واسع أن زعيم القاعدة يختبئ فيهما.
لن يؤدي غياب بن لادن، على الأرجح، إلى طي صفحة العنف والإرهاب الذي يقوم به تنظيمه. بل ربما سيؤدي إلى تصعيد آني بهدف الانتقام.
لكن رحيله سيشكّل بالتأكيد نكسة معنوية كبيرة للقاعدة، كون هذا التنظيم لم يرتبط سوى باسمه منذ إنشائه في العام 1988 على يد عرب شاركوا في الجهاد الأفغاني. فتنظيم القاعدة لم يعرف قائداً عاماً له خلال السنوات الـ 23 من إنشائه سوى بن لادن. ولذلك فإن غيابه سيترك فراغاً لن يكون سهلاً على أي شخص يخلفه أن يملأه.
بن لادن ترك وراءه في أفغانستان تنظيم قاعدة متفكك سيعيّن تنظيم القاعدة بلا شك خليفة لبن لادن. قد يكون الدكتور أيمن الظواهري، أو أي شخص آخر. لكن الأمير الجديد للتنظيم سيجد نفسه أمام تحديات جمّة ستحدد طريقة معالجته لها مدى نجاحه أو فشله.
من هذه التحديات الأساسية وضع تنظيم القاعدة في مناطق الحدود الأفغانية–الباكستانية حيث يُعتقد أن معظم قادة التنظيم الأساسيين يختبئون.
لكن مقتل بن لادن في منطقة قريبة من إسلام آباد ربما يكشف أن هؤلاء قد اختاروا الانتقال إلى مناطق أخرى نتيجة اشتداد الضربات التي يتعرضون لها، سواء من الجيش الباكستاني أو الهجمات بطائرات بدون طيار.
وكما هو معروف، أسفرت الضربات التي تعرّض لها هؤلاء على مدى السنوات الماضية إلى مقتل عدد كبير من قادة الصفين الأول والثاني وحتى الثالث أيضاً من عناصر القاعدة، بحيث بات واضحاً أن التنظيم يعاني من تراجع قدرته على إنتاج قادة جدد يحلون محل القادة الذين يسقطون واحداً تلو الآخر بسرعة لا تسمح بتدريب أشخاص لديهم الخبرة الأمنية والقتالية الكافية للحلول محلهم.
وقد يكون هذا التفكك والنقص في صفوف قادة القاعدة في مناطق القبائل الباكستانية أحد الأسباب الرئيسية وراء فشل التنظيم في تنفيذ أي عمليات جديدة ضد أهداف في دول غربية، على رغم المحاولات العديدة التي بذلها والتي كان دائماً يتم إحباطها وتفكيك الخلايا التي تُكلّف القيام بها وحتى الوصول أحياناً إلى الأشخاص الذين يُشرفون على التخطيط لها داخل مناطق القبائل، كما حصل العام الماضي في قضية مؤامرة التفجيرات المزعومة في أوروبا.
طالبان قد لا تجد نفسها ملزمة بحماية القاعدة وربما ما يزيد الطين بلة للقاعدة أن طالبان الأفغانية اليوم ربما لن تجد نفسها مُلزمة بعد الآن أن تؤمن الحماية لقادة التنظيم بالطريقة نفسها التي قامت بها منذ العام 2001 عندما ضحّت بحكمها لأفغانستان نتيجة رفضها طلب الأميركيين تسليم بن لادن للمحاكمة بتهمة التورط في هجمات 11 أيلول/سبتمبر.
وعلى رغم أن من غير المرجح أن يقوم قادة طالبان، وعلى رأسهم الملا عمر، بتسليم عناصر القاعدة الموجودين حاليا على الأراضي الأفغانية، إلا أن طالبان ستكون بلا شك في موقع أقوى الآن عندما تتحدث إلى تنظيم القاعدة بدون أن يكون بن لادن على رأسه، مهما كانت الشخصية التي ستحل محله.
كما ستكون طالبان في موقع أفضل أيضا كي تقرر هل تتصالح مع الحكومة الأفغانية، بدون أن تكون ملزمة بمواصلة تحمّل عبء القاعدة على ظهرها (وإن لم يكن ذلك يعني التخلي تماماً عن التنظيم، بل لجمه ومنعه من القيام بأعمال قد تنعكس سلباً على الأفغان أنفسهم، كما حصل في هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001).
وعلى رغم التحالف الواضح بين القاعدة وجماعات باكستانية متشددة على رأسها الفرع الباكستاني لحركة طالبان (تحريك طالبان باكستان)، إلا أن قادة القاعدة يعرفون أن الساحة التي يريدون أن يلعبوا فيها والتي يمكن أن يؤثروا فيها ليست في مناطق جنوب شرقي آسيا بل في البلدان العربية. ولذلك فإن دور القاعدة مهما تعاظم في باكستان يبقى هامشياً لأن هذا التنظيم ليس سوى ضيف لدى طالبان باكستان التي يقرر قادتها - بغض النظر عن رأي القاعدة - إن كانوا يريدون التصالح مع حكومة بلادهم أم مواصلة القتال ضدها.
تنظيم القاعدة التابع لبن لادن فقد دعمه في الشارع العربي وإذا كان هذان التحديان في باكستان وأفغانستان لا يكفيان لوحدهما للتسبب بأرق لزعيم القاعدة الجديد، فإن تطورات العالم العربي، محور الاهتمام الأساسي لهذا التنظيم، ستترك أثرها بلا شك على أي خطوة مستقبلية سيقوم بها "الأمير" الجديد.
فثورات العالم العربي أظهرت في شكل واضح أن الشعوب العربية في واد والقاعدة في واد آخر، حتى وإن التقت أهداف الطرفين في ضرورة تغيير الأنظمة. فالشعوب العربية، سواء في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن وغيرها من الدول التي ثأرت أو تنتظر دورها لتثور، أثبتت أن القاعدة لا يمكنها أن تدعي تمثيل شريحة واسعة من العرب والمسلمين، وبالتالي لا يجوز لها أن تقوم بأعمال تأتي بالضرر على الغالبية العظمى من هؤلاء المواطنين.
فتغيير النظام، في مصر مثلاً، تم بعدما خرج ملايين المواطنين إلى الشوارع في تظاهرات سلمية تنادي بالديموقراطية وسقوط نظام الرئيس حسني مبارك، ولم يتم بسبب تفجير فندق يرتاده غربيون أو اعتداء على سياح أجانب أو حتى اغتيال مسؤولين في الحكومة المصرية.
والأمر نفسه ينطبق على تونس حيث تغيّر النظام بفعل ثورة شعبية وليس نتيجة قيام القاعدة بتفجير معبد يرتاده اليهود، كما حصل في كنيس جربة عام 2002، أو خطف سياح أجانب في الصحراء، كما حصل على يد فرع القاعدة المغاربي عام 2009.
كما أن ثورة ليبيا ضد نظام حكم العقيد معمر القذافي أظهرت أيضاً أنه لم يكن للقاعدة أي دور بارز في تحريكها، على رغم الاتهامات التي دأب النظام الليبي على ترويجها بخصوص ارتباط الثوار بتنظيم القاعدة.
النجاحات الأمنية أضعفت تنظيم القاعدة في العالم العربي وغياب القاعدة كلياً عن تحريك الشعوب للقيام بثورات في العالم العربي، يترافق أيضاً مع نكسات متتالية لفروع التنظيم الأساسية في هذا العالم.
ففرع القاعدة في العراق بات اليوم لا يقوى على تنفيذ سوى بضع عمليات متفرقة لا تؤثر فعلياً في مجريات الوضع الأمني في البلاد، بعدما كان هذا التنظيم قبل سنوات قليلة يبسط نفوذه على عدد من المحافظات ذات الغالبية السنية.
لكن تصرفات فرع القاعدة في العراق نفّرت حتى أهالي المناطق السنية التي كانت توفّر الملجأ لعناصر التنظيم، الأمر الذي سمح للحكومة العراقية وقوات التحالف بالقضاء على أمراء القاعدة واحداً تلو الآخر (مثل أبي مصعب الزرقاوي وأبي أيوب المصري) وتضييق الخناق على مناطق انتشار عناصر التنظيم حتى باتوا لا يجدون منطقة آمنة واحدة لا قدرة للحكومة العراقية على دخولها.
والأمر نفسه ينطبق إلى حد ما على وضع فرع القاعدة الخليجي. إذ أن قوات الأمن السعودية ألحقت هزيمة منكرة بخلاياه خلال السنوات الماضية، ما اضطره إلى الانتقال إلى اليمن حيث أعاد تنظيم صفوفه في مناطق نائية، مستغلاً على ما يبدو الإنشغالات الكثيرة التي تواجهها الحكومة اليمنية، من نزاع من الحوثيين في الشمال إلى تمرد انفصالي في الجنوب، بالإضافة إلى نقص الموارد الطبيعية ومشاكل البطالة.
وحتى في ظل التظاهرات المليونية التي خرجت إلى شوارع صنعاء والمدن اليمنية الآخرى، سواء تلك المؤيدة للرئيس علي عبدالله صالح أو المعارضة له والمطالبة برحيله، فإن أي أثر للقاعدة لم يظهر في صفوف المتظاهرين، الأمر الذي يفسره منتقدو القاعدة بأنه يدل على أن المواطنين اليمنيين في واد والقاعدة في واد آخر، حتى وإن التقت الأهداف بضرورة تغيير النظام.
أما في المغرب، فإن الوضع لا يبدو أفضل للقاعدة. فالتنظيم يعمل منذ سنوات خارج نطاقه التقليدي في مناطق شمال الجزائر ذات الغالبية السكانية، بعدما اضطرته ضربات أجهزة الأمن الجزائرية إلى الانتقال إلى بلدان الساحل حيث تخف قبضة قوات الأمن ويمكن النشاط في مناطق صحراوية شاسعة.
لكن العمل في الصحراء يتم بعيداً عن المناطق المأهولة بالسكان وهم البحر الذي تسبح في وسطه "سمكة" الثوار أو المتمردين في أي بلد. ولذلك فإن نشاط القاعدة مهما تعاظم في بلدان الساحل – وهو يبدو مقتصراً إلى درجة كبيرة حالياً على خطف غربيين ومبادلتهم بفديات مالية – فإنه سيبقى بلا تأثير كبير ما دام محصوراً في الصحراء بعيداً عن المناطق ذات الكثافة السكانية في الشمال، خصوصاً في الجزائر.
سيواجه الزعيم الجديد للقاعدة كل هذه التحديات، فكيف سيتعامل معها؟
الأسابيع والشهور المقبلة ستحمل معها بلا شك الجواب على مثل هذا السؤال وسيتضح بالتالي هل تواصل القاعدة هجماتها الدموية أم أنها ستتعلّم ربما "الدرس" من الثورات العربية في خصوص أن التغيير يمكن أن يحصل بتحرك شعبي سلمي.