الطيران المدني العراقي . . . الواقع وآفاق المستقبل
تأسست أول بنية للطيران المدني العراقي عام 1933 ممثلة بجمعية الطيران العراقية وكانت تعنى بنشر استخدام الطائرات بين الشباب (الفتوة الجوية) واستخدام الطائرات الصغيرة في التنقل ومؤازرة القوة الجوية الفتية آنذاك في حصولها على طائرات من غير بريطانيا لكسر احتكار السلاح وقد سيرت الجمعية طائرات صغيرة للنقل الداخلي وبعض الدول المجاورة ونقلت الوفد العراقي المؤسس للجامعة العربية وقد تأسست بعدها الخطوط الجوية العراقية عام 1946 للنقل الجوي الخارجي ودون الالتفات إلى الحاجة البنيوية للدولة العراقية . . فرداءة الطرق وقلتها وتخلف وسائل النقل الأخرى كانت تحتم إنشاء منظومة حديثة وسلسة للنقل الجوي بين الألوية والأصقاع البعيدة بما يربطها بالمركز ويسهل تنقل الأشخاص والفعاليات الاقتصادية والإنسانية ويربطها بالتالي في العالم الواسع بما يسَّرع حركة عجلة مواكبة العصر . .
تكاليف النقل بالطائرة عالمياً : ـ التنقل جواً وحتى في وضعنا الحالي تتنافس مع النقل بالسيارات بل تكون في بعض الأحيان أقل من الحافلات الصغيرة (الكيا) حيث أن المعدل الآن للتنقل بطائرة صغيرة بمحركين Beechcraft هو 2.67$ لكل ميل بحري (1852متر) لخمسة عشر راكب أي 145 دينار/كم/راكب وبطائرة النقل المتوسط B737-300 هو 120 دينار:كم/راكب (الأرقام الحالية مع إضافة تأمين المخاطر ضد الحرب والبالغة تقريباً (0.0071) وللنقل الخارجي الذي يزيد كثيراً على تكاليف النقل الداخلي وبنسبة أجور العاملين الأمريكية والأوربية) . ولنتخيل كم الخدمات الذي ستقدمه هذه الطائرات الأربعين المفترضة للدولة وللمواطنين من تواصل للأطراف بالمركز وتسريع التطور المتبادل وتقليل الفوارق بينهما . . فكم من المرضى مات في النواحي البعيدة وطبيبه في المدن يشكو قلة المراجعين في عيادته . . وكم هي المواهب الذكية التي دفنت في الأصقاع البعيدة دون أن تصل لمكانها الطبيعي الذي يأخذ بيدها إلى التألق وكم هي الأراضي الخصبة التي أُهملت لعدم إمكانية الوصول لها واستزراعها وكم هي المنتجات التي تستحق أن تنقل بالطائرة ذبلت في مواطنها دون أن تسوق إلى مراكز إستهلاكها العطشى إليها . . وكم وكم من المظالم التي سببت شروخ كبيرة في ذاكرة وكيان الوطن كانت ستُحل لو وصل إليها بالطائرة متخذ القرار النزيه لمعالجتها في مهدها .
أصناف الطائرات : ـ تصنف الطائرات حسب الغرض المصممة له من ناحية الحمولة والسرعة والمدى والارتفاع الذي تصل له وفي الطيران المدني تتبارى الشركات المصنعة أولاً على التكاليف الحدَّية لنقل شخص واحد أو طن واحد لمسافة ميل أو كيلومتر وبالسرع المناسبة وهي تقريباً بالطائرات الإقليمية CRJ-200 ، B737-300 ، ERJ-124 على التوالي (0.124 – 0.135 – 0.147 دولار/مقعد/ميل) . (الوزن القياسي لحمولة المقعد 90.718 كغم) من جهة أخرى يفترض توفير الخدمة العامة وحسب نسب تجمعهم من المدن الصغيرة ولغاية المدن الكبرى من طائرة بمقعد واحد أو مقعدين لغاية الطائرة العملاقة AIRBUS 380A ومعلوم أن تكلفة النقل الجماعي تكون أقل كلفة إلاَّ أن إمتلاك طائرة صغيرة بمقعد أو مقعدين لطبيب أو مهندس جوال ستكون نافعة له في سعة مساحة عمله وللتجمعات السكانية المستهدفة بخدماته . والطائرات الأكثر عدداً في الدول المتقدمة هي ذات المقاعد (2-6) راكب وتبدأ النسبة بالتناقص كلما كبر حجم الطائرة .
العراق واستخداماته : ـ الطائرات الواردة للعراق على الأغلب الأعم كانت حكومية ما عدا طائرات جمعية الطيران العراقية وهي قليلة وكانت أغلبها كبيرة وفي فترة متأخرة وأبتداءاً للخطوط الجوية العراقية عام 1946 أعقبتها هدية الحكومة الأمريكية بتأسيسي الطيران الزراعي العراقي عام 1947 بطائرات بيل47 كأول استخدام في العالم للطائرات السمتية للطيران الزراعي . . أعقبتها تأسيس طيران الكمارك في أواسط الخمسينيات بطائرات أوستر وكانت أغلب طائرات الخدمات الجوية العامة عسكرية أو حكومية تدار داخل منضومات سقيمة غير اقتصادية ولا تقدم للعامة أي شيء ووصل عددها في بعض الأحيان إلى 125 طائرة لم تستخدم من طاقتها التصميمية أي شيء بل أن بعض الطائرات لم تطر أكثر من طيران الفحص التجريبي (40دقيقة) . وهذا يعني ضياع (125.000) ساعة طيران سنوياً ولمدة تزيد على 23 سنة (1980-2003) أي (2,875,000) ساعة طيران ويعني ضياع (57,500,000) رحلة لمسافة 125كم/شخص وهو يعني أيضاً نشاط ضائع لا يُسْتَهان به فلو افترضنا أن متوسط سكان العراق خلال هذه الحقبة هو (18) مليون فيكون المستوى المتاح إمكانية نقل هو 3,194% لم يقدم منها أي شيء يذكر وإذا أُضيفت لها أعداد الطائرات المتوسطة والكبيرة التي كانت في حوزة الحكومة (العسكرية والمدنية الخاصة بالنقل) لأصبح الأمر كارثة اقتصادية تضاف للكوارث في كل القطاعات . كانت عقلية الحكومة أن الطائرة العامة هي سيارة ليموزين رئاسية لا يحق حتى للحاشية والمقربين استخدامها فقد طلب أحد المقاولين الكبار من رأس السلطة آنذاك السماح بشراء واستخدام طائرة لنقل مهندسيه وفنييه ومعداته بين المشاريع الإستراتيجية المكلف بها فأجيب بالقلم الأحمر (اتق الله يا أل خربيط) بينما ينظر لها في العالم العاقل على أنها شاحنة تنقل الأغنام في روسيا والحليب والجبن والورود في هولندا وتعتبر من معدات الحقل في أمريكا وفي النيبال بغل الجبل وفي كينيا مستوصف سيار وفي أغلب أصقاع العالم سيارة تاكسي
الواقع والطموح : ـ بعد سقوط النظام في 9/4/2003 لم يبق تقريباً شيء يعتد به للطيران المدني العراقي عدا خمسة عوامل ممكن التأسيس عليها وهي
مكونات الطيران المدني العراقي : ـ 1. الملاكات البشرية الجوية من الطيارين والمهندسين والفنيين والإداريين 2. المطارات 3. وقود الطائرات 4. المعدات الجوية 5. خطط ومشاريع واعدة
مكونات الطيران المدني العراقي 1. الملاكات البشرية الجوية تأسست أول وحدات الطيران العراقي العسكري عام 1929 وتأسست القوة الجوية عام 1931 وجمعية الطيران العراقية عام 1933 والخطوط الجوية العراقية عام 1946 والطيران الزراعي عام 1947 وطيران الكمارك عام 1955 وتلاحقت هذه المؤسسات الجوية التي ارتقت لصناعة أول طائرة عراقية راشدة عام 2002 (طائرة الصقر العراقي لفريق المهندس ماجد عبد الكريم) وكان يشغل المنظومات الجوية المتنوعة والمعقدة ملاكات جيدة على المستوى العالمي ورغم إنكفاء العراق وخاصة بعد عام 1982 واقتصار التأهيل والتدريب بعد ذلك على المؤسسة الجوية العسكرية إلاَّ أنَّ الخامة الأساسية للعراقي تكاد تكون من الخامات المميزة في العالم (البعض يضعنا ضمن الثلاثة الأول في العالم بعد بريطانيا والباكستان) فالطيارون والمهندسون العراقيون مثل أخوتهم الأطباء والمهندسون المعماريون والاقتصاديون والفنانين التشكيليين كانوا أوائل أقرانهم في الدراسات والجامعات العالمية . من هذا يمكن إعادة تأسيس أكاديمية شاملة للدراسات الجوية (الطيران – الهندسة – الدبلومات الفنية وللمهن الساندة – ودراسات عليا لإدارة واقتصاديات النقل الجوي) وقد سبق لجمعية الطيران العراقية أن أسست مدرسة للطيران عام 1948 حصلت فيما بعد على لقب أحسن مدرسة في العالم عام 1968 (تقرير شفرانيك المفتش العام لمنظمة الطيران المدني الدولية ICAO من خلال زيارته المفاجئة للجمعية) ولا نستغرب ذلك فأن مدرسة الطيران الحالية في أثيوبيا هي الأولى في العالم رغم أن الأكبر والأكثر سمعة هي مدرسة FlightSafety Int الأمريكية . ويمكن للعراق ذلك من خلال تكوين علاقات روابط مع أرقى المدارس العالمية Scholarship مع إعادة ـ تأسيس ما أهمل وبالتالي تأهيل الطاقات البشرية اللازمة لتشغيل منظومة الطيران المدني العراقي الجديدة .
إنَّ حصيلة قرابة ثمانين سنة من عمر الطيران العراقي الحالية أعداد لا يستهان بها وهي تقريباً كما يلي :ـ 1200 طيار – 4000 مهندس – 13500 فني طائرات – 4500 مهن واختصاصات ساندة ومعدات أرضية يمكن إعادة تأهيل 25 – 30% منهم وفق المستويات العالمية والذين يمكن أن يشغلوا 50% من المنظومة المقترحة القادمة للطيران المدني العراقي . إن ضرورة تأهيل هؤلاء عملية حيوية وضرورة قصوى كونهم حملة تقاليد راسخة وواقعية أثبتت جدارتها إلاَّ أن الأهواء السياسية وشكل الحكومة المقيتة لم تضعهم في مكانهم الصحيح ولا ذنب لهم لذا يجب إنصافهم لما يمثلون من نتاج تحملت الدولة نفقات باهظة لإعدادهم بمليارات الدولارات فيما تولى الزمن الطويل والخبرة المتراكمة مهمة صقل عقولهم وسواعدهم وأن تعويض نفس العدد بجدد وبدون خبرة متوارثة يتكلف أكثر من (750) مليون دولار لأن تكلفة تدريب الطيار المستجد 60.000 دولار والمهندس 200.000 دولار وفني الطائرات 15.000 دولار والمعدات الساندة 10.000 دولار . وقد قدمنا من خلال نادي فرناس الجوي لوزارة التخطيط والتعاون الإنمائي مشروع إعادة تأهيل الملاكات الجوية وحضي برعايتهم في تكوين قاعدة معلومات في الجهاز المركزي للأحصاء وأُعدت الاستمارات الخاصة من قبلهم وهي بإنتظار التخصيصات المالية منذ أكثر من عام . . إنَّ تكوين أكاديمية شاملة وفي بعض أقسامها مفتوحة يمكن أن تؤمن احتياجات هذا القطاع بمختلف أختصاصاته واستحداث أقسام علمية جديدة كان يفتقر إليها العراق مثل دراسات الإدارة والأقتصاد الجويان وربط كل مفردات الدراسات المتنوعة بالجانب الأكاديمي بما فيها الفنيين والمهن الساندة بما يمكنها من فتح آفاق التطور لمنتسبيها وفي أدناه ملاحظات عن الواقع والمقترح لكل منها :ـ
1-1- الدراسات الهندسية : تصحيح مسار دراسات الهندسة الجوية في أقسام الطيران لجامعات بغداد والتكنولوجيا والفنية العسكرية (الرشيد حالياً) حيث تقتصر جميعها على هندسة التصميم دون الإدامة وعلى المناهج الأكاديمية البحتة تقريباً دون التطبيق العملي على طائرات حية – أو ساكنة قريبة أو مختبرات مناسبة ودون أية علاقات مع الشركات الدولية المنتجة للطائرات مما يجرد خريجيها من أية خبرة مفيدة في العمل على الطائرات وطريقة إعدادها والتوقيع عليها وإدامتها وإجراء التطوير عليها أو إجراء العمرات أو اكتشاف الأخطاء المصنعية . مما أبقانا كل هذه السنين نضخ مهندسين يكونون عند تخرجهم أقل خبرة عملية من الفنيين . . وكان الأحرى بمخططين تأسيس هذه الأقسام الاستفادة من تجربة الدكتور سندرسن باشا عند تأسيسه الكلية الطبية العراقية عام 1927 والتي أسسها ملاصقة وملحقة بمستشفى المجيدية (مدينة الطب حالياُ) . وأفضل المواقع المقترحة لكليات هندسة الطيران هو داخل أو بجوار مفتوح للمطارات . .
وإضافـة دراسـات هندسة إدامة الطائرات للمناهـج والتي كانت تُخرِّجْ كل العاملين الحاليين المخولين على الطائرات المدنية من بريطانيا وأمريكا والتي تفتقر أيضاً للثقافة العلمية الجوية العامة والهندسية التفصيلية بما يوصف فلسفة المواد وتشكيلها والنظرية العامة للطيران بما يبقي أُفقهم محدود عن تطوير الآلة ومعرفة أخطاء صنعها وسد الطريق على تطورهم العلمي بأتجاه الدراسات العليا التخصصية والإدارية . هذا التناقض في القطاعين (هندسة التصميم Designing Eng وهندسة الإدامة Maintenance Eng) فوت فرص كبيرة على العراق في عدم استيعاب كثير من الطائرات والمعدات وقلل من هامش الاستخدام الاقتصادي العلمي للطائرات مما أدى بالكثير من الطائرات إلى المقابر ولم يستنفذ عُشر أعمارها فلو سمعنا نصيحة أبن غورنغ قائد القوة الجوية الألمانية عام 1941 أثناء زيارته لقاعدة الموصل الجوية لأصبح لدينا علم هندسة جوي ناجح والذي أكد فيه أن المهندس الناجح يرشح من خلال فني ناجح ويرتقي تبعاً لتطوره العلمي والتطبيقي المتلازم ويُرشح لدراسات أعلى وصولاً لهندسة التصميم وليس الأبتداء فيها .
2-1- تدريب الفنيين : الأغلب الأعم من الفنيين الجويين هم خريجي المركز المهني للطائرات وقبلها مدرسة الصنائع الجوية التابعين للقوة الجوية وهناك نسبة بسيطة من خريجي أعداديات الصناعة أو الفرع العلمي للأعدادية يؤهلون بدورات تخصصية لاحقة وخاصة في الخطوط الجوية أو الدوائر الأخرى أو معهد الطيران المدني والمخصص أصلاً للمهن الساندة الأخرى وكان المركز والصنائع قبله بمستوى دراسي وتطبيقي جيد جداً من الأداء وحسن العطاء .
3-1- تدريب الطيارين : كنا أوائل العالم في هذا المجال كما أسلفنا ثم إنحدر المستوى ليصل إلى مستوى متدني خاصة في الأسس النظرية المعطاة للطيارين وعدم تطبيق الحد الأدنى الضروري من المعرفة اللازمة .ناهيك عن قاعدة الثقافة التخصصية ولمعالجة ذلك يتوجب إنتهاج وسائل وأساليب ومناهج بدأت تنتشر عالمياً وهي إضافة مقررات Aviation Science للمقررات الحالية التطبيقية المحظة (PPL-ME-CPL-IR-ATPL-CFI-CFII) يضاف له مادة هندسة إدامة الطائرات الأولية مع دراسات أولية في أقتصاديات النقل الجوي للحصول على البلكلوريوس تؤهله مستقبلاً لتطوير معرفته ودرجته العلمية ليتسنى تطوير من يبرز منهم لإدارة وقيادة النشاط كما أسلفنا في الدراسات الهندسية .
4-1- تدريب الإدارات والقيادات : لم يؤسس أي معهد أو كلية أو دراسات متخصصة لتخريج إدارات سواءاً منها الدنيا والوسطى والقيادات االعليا في كل تاريخ العراق رغم الحجم الضخم من الإنفاق على المطارات والطائرات والمعدات والطيارين والمهندسين والفنيين والبنى التحتية الأخرى والتي تجاوزت عشرات المليارات وكانت تولي المواقع والمناصب قاطبة لمناحي غير موضوعية متعددة وأغلبها الولاء وبعض قليل منها إلى التجربة والممارسة والخدمة . بينما عالم االطيران متشعب ومكلف جداً وبالتالي يديره علم إدارة أقتصادية متخصص وعقول ودراسات معمقة ولا يتأتى هذا من صدفة أو ممارسة أو تجربة الخطأ والصواب . . فإدارة مطار صغير في أمريكا تتطلب دراسة بمستوى ماجستير إدارة أعمال جوية أما إدارة قطاع بمستوى وطني شامل يحتاج إلى مجلس علمي بحثي تنفيذي مكون من أساتذة متخصصين في مجالات الطيران والهندسة المختلفة ولديهم درجات علمية عليا في الإدارة العامة واقتصاديات النقل الجوي . ولحل هكذا معضل قدمنا في دراستنا لضرورة ربط كل الأختصاصات الفنية بالأكاديمية وعندما نحتاج لإدارة مجموعة يجب أن نهيء لهم من نفس تخصصهم من له القدرة القيادية ونزجهم في دراسات عليا (ماجستير – دبلوم عالي – دكتوراه ومن ثم الاستاذية) متخصصة بهذا المجال وليست دراسات عليا عامة ومن هذه المجاميع تنتخب القيادات العليا للقطاع.